كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما «دار الحرب».. بتعريفها ذاك.. فليس من حقها ولا من حق أهلها أن يتمتعوا بما توفره عقوبات الشريعة الإسلامية من ضمانات، لأنها ابتداء لا تطبق شريعة الإسلام، ولا تعترف بحاكمية الإسلام.. وهي- بالنسبة للمسلمين «الذين يعيشون في دار الإسلام ويطبقون على حياتهم شريعة الإسلام»- ليست حمى. فأرواحها وأموالها مباحة؛ لا حرمة لها عند الإسلام- إلا بعهد من المسلمين؛ حين تقوم بينها وبين دار الإسلام المعاهدات- كذلك توفر الشريعة هذه الضمانات كلها للأفراد الحربيين «القادمين من دار الحرب» إذا دخلوا دار الإسلام بعهد أمان؛ مدة هذا العهد؛ وفي حدود «دار الإسلام» التي تدخل في سلطان الحاكم المسلم «والحاكم المسلم هو الذي يطبق شريعة الإسلام».
وعلى ضوء هذا البيان نستطيع أن نمضي مع السياق: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك. قال إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين...}.
هذه القصة تقدم نموذجًا لطبيعة الشر والعدوان؛ ونموذجًا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له. كما تقدم نموذجًا لطبيعة الخير والسماحة؛ ونموذجًا كذلك من الطيبة والوداعة. وتقفهما وجهًا لوجه، كل منهما يتصرف وفق طبيعته.. وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر، والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير؛ ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل، تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء؛ وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة؛ فإذا ارتكبها- على الرغم من ذلك- وجد الجزاء العادل، المكافىء للفعلة المنكرة. كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه. فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش، وأن تصان، وأن تأمن؛ في ظل شريعة عادلة رادعة.
ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة.. وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن: «قابيل وهابيل» وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة؛ وورود تفصيلات عن القضية بينهما، والنزاع على أختين لهما.. فإننا نؤثر أن نستبقي القصة- كما وردت- مجملة بدون تحديد. لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب- والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات- والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد فيه تفصيل.
وهو من رواية ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل». رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن مسعود.. وأخرجه الجماعة- سوى أبي داود- من طرق عن الأعمش.. وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان، وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد، وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث..
وبقاء القصة مجملة- كما وردت في سياقها القرآني- يؤدي الغرض من عرضها؛ ويؤدي الإيحاءات كاملة؛ ولا تضيف التفصيلات شيئًا إلى هذه الأهداف الأساسية.. لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله..
{واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. قال لأقتلنك. قال إنما يتقبل الله من المتقين}.
واتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية- بعدما تلوت من قصة بني إسرائيل مع موسى- اتله عليهم بالحق. فهو حق وصدق في روايته، وهو ينبىء عن حق في الفطرة البشرية؛ وهو يحمل الحق في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة.
إن ابني آدم هذين في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة. فهما في موقف طاعة بين يدي الله. موقف تقديم قربان، يتقربان به إلى الله: {إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر}.
والفعل مبني للمجهول؛ ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية؛ وإلى كيفية غيبية.. وهذه الصياغة تفيدنا أمرين: الأول ألا نبحث نحن عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح إنها مأخوذة عن أساطير «العهد القديم».. والثاني الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله، فالأمر لم يكن له يد فيه؛ وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية؛ تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته.. فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه، وليجيش خاطر القتل في نفسه! فخاطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في هذا المجال.. مجال العبادة والتقرب، ومجال القدرة الغيبية الخفية التي لا دخل لإرادة أخيه في مجالها..
{قال لأقتلنك}.
وهكذا يبدو هذا القول- بهذا التأكيد المنبىء عن الإصرار- نابيًا مثيرًا للاستنكار لأنه ينبعث من غير موجب؛ اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر. شعور الحسد الأعمى؛ الذي لا يعمر نفسًا طيبة.
وهكذا نجدنا منذ اللحظة الأولى ضد الاعتداء: بإيحاء الآية التي لم تكمل من السياق..
ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة؛ بتصوير استجابة النموذج الآخر؛ ووداعته وطيبة قلبه: {قال إنما يتقبل الله من المتقين}.
هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله؛ وفي إيمان يدرك أسباب القبول؛ وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله؛ وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول؛ وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره..
ثم يمضي الأخ المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شرة الشر الهائج في نفس أخيه الشرير: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}.
وهكذا يرتسم نموذج من الوداعة والسلام والتقوى؛ في أشد المواقف استجاشة للضمير الإنساني؛ وحماسة للمعتدَى عليه ضد المعتدِي؛ وإعجابًا بهدوئه واطمئنانه أمام نذر الاعتداء؛ وتقوى قلبه وخوفه من رب العالمين.
ولقد كان في هذا القول اللين ما يفثأ الحقد؛ ويهدّىء الحسد، ويسكن الشر، ويمسح على الأعصاب المهتاجة؛ ويرد صاحبها إلى حنان الأخوة، وبشاشة الإيمان، وحساسية التقوى.
أجل. لقد كان في ذلك كفاية.. ولكن الأخ الصالح يضيف إليه النذير والتحذير: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}.
إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني، فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك. فهذا الخاطر- خاطر القتل- لا يدور بنفسي أصلًا، ولا يتجه اليه فكري إطلاقًا.. خوفًا من الله رب العالمين.. لا عجزًا عن إتيانه.. وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك؛ فيكون إثمك مضاعفًا، وعذابك مضاعفًا.. {وذلك جزاء الظالمين}.
وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل، ليثنيه عما تراوده به نفسه، وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي.
وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف، بالخوف من الله رب العالمين؛ وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان.
ولكن النموذج الشرير لا تكمل صورته، حتى نعلم كيف كانت استجابته: {فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين}.
بعد هذا كله. بعد التذكير والعظة والمسالمة والتحذير. بعد هذا كله اندفعت النفس الشريرة، فوقعت الجريمة. وقعت وقد ذللت له نفسه كل عقبة، وطوعت له كل مانع.. طوعت له نفسه القتل.. وقتل من؟ قتل أخيه.. وحق عليه النذير: {فأصبح من الخاسرين}.
خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك. وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق. وخسر دنياه فما تهنأ للقاتل حياة. وخسر آخرته فباء بأثمه الأول وإثمه الأخير..
ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية.
صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحمًا يسري فيه العفن، فهو سوأة لا تطيقها النفوس.
وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه- وهو الباطش القاتل الفاتك- عن أن يواري سوأة أخيه. عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير: {فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين}.
وتقول بعض الروايات: إن الغراب قتل غرابًا آخر، أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب، فجعل يحفر في الأرض، ثم واراه وأهال عليه التراب.. فقال القاتل قولته. وفعل مثلما رأى الغراب يفعل..
وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتًا يدفن- وإلا لفعل- وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم. أو لأن هذا القاتل كان حدثًا ولم ير من يدفن ميتًا.. والاحتمالان قائمان. وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة- وإلا لقبل الله توبته- وإنما كان الندم الناشيء من عدم جدوى فعلته، وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق.
كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب، قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس. وقد يكون حدثًا خارقًا أجراه الله.. وهذه كتلك سواء.. فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي.. هذا من قدرته، وهذا من قدرته على السواء..
وهنا يلتقط السياق الآثار العميقة التي تتركها في النفس رواية النبأ بهذا التسلسل، ليجعل منها ركيزة شعورية للتشريع الذي فرض لتلافي الجريمة في نفس المجرم؛ أو للقصاص العادل إن هو أقدم عليها بعد أن يعلم آلام القصاص التي تنتظره:
{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا. ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون}.
من أجل ذلك.. من أجل وجود هذه النماذج في البشرية.. من أجل الاعتداء على المسالمين الوادعين الخيرين الطيبين، الذين لا يريدون شرًا ولا عدوانًا.. ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجبلات المطبوعة على الشر؛ وأن المسالمة والموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشر عميق الجذور في النفس.. من أجل ذلك جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة كبيرة، تعدل جريمة قتل الناس جميعًا؛ وجعلنا العمل على دفع القتل واستحياء نفس واحدة عملًا عظيمًا يعدل إنقاذ الناس جميعًا.. وكتبنا ذلك على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم من الشريعة «وسيأتي في الدرس التالي في سياق السورة بيان شريعة القصاص مفصلة».
إن قتل نفس واحدة- في غير قصاص لقتل، وفي غير دفع فساد في الأرض- يعدل قتل الناس جميعًا. لأن كل نفس ككل نفس؛ وحق الحياة واحد ثابت لكل نفس. فقتل واحدة من هذه النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته؛ الحق الذي تشترك فيه كل النفوس. كذلك دفع القتل عن نفس، واستحياؤها بهذا الدفع- سواء كان بالدفاع عنها في حالة حياتها أو بالقصاص لها في حالة الاعتداء عليها لمنع وقوع القتل على نفس أخرى هو استحياء للنفوس جميعًا، لأنه صيانة لحق الحياة الذي تشترك فيه النفوس جميعًا.
وبالرجوع إلى البيان الذي قدمنا به لهذه الأحكام، يتبين أن هذا التقرير ينطبق- فقط- على أهل دار الإسلام- من مسلمين وذميين ومستأمنين- فأما دم أهل دار الحرب فهو مباح- ما لم تقم بينهم وبين أهل دار الإسلام معاهدة- وكذلك مالهم. فيحسن أن نكون دائمًا على ذكر من هذه القاعدة التشريعية؛ وأن نتذكر كذلك أن دار الإسلام هي الأرض التي تقام فيها شريعة الإسلام، ويحكم فيها بهذه الشريعة، وأن دار الحرب هي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله، ولا يحكم فيها بهذه الشريعة..